وقال سبحانه وتعالى أيضاً:
"وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم , ولكن في النار إذ لا بد لصورة النار بعد إنتهاء مدة العقاب أن تكون برداً وسلاماً على من فيها , وهذا نعيمهم , فنعيم أهل النار بعد
_________
(1) أيضاً ص 52 , 53.
(2) أنظر فصوص الحكم لابن عربي ص 195.
(3) أيضاً ص 192.
(4) أيضاً ص 114.
استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين ألقي في النار فإنه عليه السلام تعذّب برؤيتها وبما تعوّد في علمه وتقرر أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان وما علم مراد الله فيها ومنها في حقه.
فبعد وجود هذه الآلام وجد برداً وسلاماً مع شهود الصورة اللونية في حقه , وهي نار في عيون الناس. فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين: هكذا هو التجلّي الإلهي " (1).
وهكذا نختم كتابنا هذا سائلين المولى عزّ وجلّ أن نكون قد وفقنا لتبيين حقيقة الصوفية وردّ شبهات المتصوفين , ونسأل الله الرشاد والهدي وحسن الخاتمة والحمد لله ربّ العالمين.
_________
(1) فصوص الحكم فص حكمة نفسية في كلمة يونسية ص 169 , 170.
ليس العاشق مسلما أو مسيحيا،
أو جزءا من أي عقيدة.
دين العشق لا مذهب له
لتؤمن به أو لا تؤمن
مولانا جلال الدين الرومي
محي الدين ابن عربي ، الذي يعرف في تاريخنا بلقب الشيخ الأكبر أو شيخ الصوفية الأكبر .
دين الهوى عند شيخ الصوفية الأكبر محي الدين بن عربي
وحتى نفهم أهمية هذا الرجل في تاريخ التصوف، ينبغي أن نعرج على مفهوم التصوف ، الذي غالبًا ما يفهم بمعنيين :
الأول : معنى عام ، وشعبي نراه متمثلًا في الاحتفالات الخاصة بالأولياء والمولد ، وهي طقوس فلكلورية شعبية تنسب إلى التصوف وهي في الواقع أقرب ما تتم بحجة التصوف ، إذ الشعوب كلها لها احتفالات ، وهذا لا يعني التصوف في شيء.
والآخر : معنى خاص يكون فيه التصوف طريقًا لفهم العالم ، بعيدًا عن الانشغال في الإطار الخارجي الشكلي للدين، إنما يحاول المتصوف من خلاله الوصول إلى معرفة تتجاوز ظاهر الأشياء إلى إدراك المعنى الكامن خلفها .
من أجل هذا يحرص الصوفيون على إبانة الفرق القائم بين الظاهر والباطن ، والشريعة والحقيقة، على أساس أن كل ظاهرة شرعية تخفي خلفها حقيقة باطنة .فالشرع مجموعة عبادات ، وهذه العبادات عند الصوفي باب يدخل منه إلى حقيقة مطلوبة من وراء هذه المسألة ، فالشريعة والحقيقة ، والظاهر والباطن ، والمعلن والمستتر ، والعام والخاص ، هي الثنائيات التي يقوم عليها التصوف.
وفي الحقيقة بدأ التصوف في تاريخ الإنسانية منذ وقت مبكر ، وقد أخذ أسماء وأشكالًا عدّة فهو عرف في اليهودية باسم القبالة(الكابالا) ، وفي المسيحية بالرهبنة ، وفي الإسلام بالتصوف .ويمكن القول إن هذا الاتجاه ظهر منذ القرن الأول من خلال خبرات عميقة تتجاوز الشكل الظاهر للشريعة إلى إدراك باطن وحقيقة هذا العالم. وتتطور تطورًا كبيرًا جدًا خلال القرون الخمسة الأولى ، إلى أن وصل إلى محطة غير مسبوقة ، هي محطة ابن عربي ، الذي ولد في الأندلس ، عام 560هـ ، وفيها نشأ ودرس ، ويبدو أنه جذب للتصوف منذ صغره ، فالمؤرخون لحياته عرضوا حوارًا له مع ابن رشد ، الفيلسوف المشهور ، قال فيه : "دخلت يوماً بقرطبةَ على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله به عليّ في خلوتي ، فكان يُظهر التعجُّبَ مما سمع . فبعثني والدي إليه فى حاجةٍ ، قصداً منه حتى يجتمع بي ، فإنَّه كان من أصدقائه ، وأنا (آنذاك) صبي ما بقل وجهي ولا طرَّ شاربي . فعندما دخلت عليه ، قام من مكانه إليَّ محبَّةً وإعظاماً ، فعانقني وقال لي : نعم ! قلت له : نعم ! فزاد فرحه بي لفهمي عنه ، ثم استشعرتُ بما أفرحه ، فقلت : لا ! فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده . وقال لي : كيف وجدتم الأمرَ في الكشف والفيض الإلهي ، هل هو ما أعطاه لنا النظر ؟ قلت : نعم ولا ، وبين نعم ولا تطيرُ الأرواحُ من موادِّها والأعناق من أجسادها ! فاصفرَّ لونُه" .
وهذا حوار بسيط بين شخصين ، يظهر الصلة بين علوم النظر القائمة على تدبر ذهني، وبين الإدراك المباشر للحقيقة، ومعرفة الصوفي التي تقوم على إدراك الشيء بمجمله، ويدل على طبيعة المسار الفكري في الإسلام، فابن رشد يمثل المسار الفكري الفلسفي الذي يستند على فلسفة أرسطو ، وهذا المسار يمكن وصفه بأنه غير متوازن مع فلسفة الفكر العربي ، أما ابن عربي فيمثل مسارًا فكريًا آخر هو التصوف ، وأحسب أنه مسار متناغم مع الشخصية الإسلامية والعربية .
والتقى ابن عربي بابن رشد مرة أخرى عندما حمل على نعشه .ووصف جنازته كالآتي «ولما جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وقلنا في ذلك:
«هذا الإمام وهذه أعماله
ياليت شعري هل أتت آماله».
واللافت وصفه له بالإمام وذكره لمؤلفاته التي ساوت وزن جثمانه، وهي على كثرتها لم تحقق آمال قاضي قرطبة وطموحاته.
وهذا الوصف يعكس قلقه المعرفي.إذ تراه مستخرجًا للعلوم الفلسفية، لكن منهجه الصوفي بقي الأساس ، وكانت مصر هي المحطة الأولى التي منها انتقل للشام ومكة لينتهي به المقام على أطراف الشام وحدود تركيا المعاصرة "قونيا".وفي فترة حياته الممتدة من 560_ 638ه ، كتب مؤلفات عدّة ، بأفق عميق تتجلى فيه المعرفة واللغة الصوفية ، نادرًا مانجده عند شخص آخر ، فهو (كون) غير محدود ، وقد أخبرنا في فهرست أعدها لمؤلفاته أنها بلغت 250 ، وهو ألف بعد هذا الفهرست كتبا جديدة وصلت إلى 500 كتاب حسب ما أشارت له بعض الدراسات الحديثة.أما كتابه الأساسي فهو الفتوحات المكية وهو 37 سفر ، و560 باب ، وقد نشر في أربع مجلدات دون تحقيق ، ثم عمد عثمان يحيى إلى تحقيقه ، واستغرق هذا منه 25 سنة ، خرج فيها ب 17جزء ، ومات دون أن يكملها ، ولا أظن أنه من اليسير استكمال تحقيقه. فهو نص صوفي ، موغل في التعمق، ولغته رمزية ، ويستخدم إشارات إلهية ، ولا بد عند قراءته من الانتباه لكل المفردات .يقول في بدايته:
"لو علمتَه لَمْ يَكُن هُو، وَلو جَهلَك لَمْ تكن أنت: فبعلمه أوجدَك، وبعجزك عبدتَه! فهو هو لِهُوَ: لا لَكَ. وأنت أنت : لأنت وَلَهُ! فأنت مرتبط به، ما هو مرتبط بك . الدائرةُ – مطلقةً –مرتبطةٌ بالنقطة .النقطةُ – مطلقةً-ليست مرتبطةً بالدائرة . نقطةُ الدائرة مرتبطةٌ بالدائرة"
هذا نص لا يتجاوز السطرين وفيه يُقِر ابن عربي أن الخلق لو عرفوا الله ، فما ظنوا أنهم عرفوه ليس هو ، ولو هو الذي جهلهم ، لما وُجِدوا ، فالخلق موجودون بشرط معرفة الرب بهم .وهو وهم (أي الخلق) في اختلاف أساسي ، فهو هو بصرف النظر عنهم ، وهم هم وهو ، فهو النقطة والوجود هو الدائرة ، ونقطة الدائرة مرتبطة بالدائرة.
ونقطة الدائرة نظرية كبيرة لا يمكن بسط الحديث عنها ، وباختصار فيما فهمت النقطة هي الإنسان الكامل الذي تجتمع فيه صفات الربوبية والإنسانية ، وتسميه الصوفية ب "القطب" .ولم يتحدث ابن عربي مباشرة عن مفهوم القطب . وإنما رمز به لغة وأظهر : أن الناس إما عوام شغلهم الشاغل المسائل المؤقتة ـ وإما أهل ولاية وهم خواص الخواص، ومن أهل الولاية ثمة نقطة عليا (نقطة القطب) محل نظر الله من العالم .
وقد شرح هذه النظرية عبد الكريم الجيلي بالتفصيل ، وأودى شرحه به إلى مشكلات عدّة ، ومثله شهاب الدين السهروردي الذي شرحها تحت عنوان الحكيم المتأله ، وقوبِل شرحه بمعارضة قوية أدت في ختام المطاف لمقتله .وكذلك محمد ابن عبد الحق ابن سبعين الذي شرحها تحت اسم "المحقق"في كتابه بد العارف الذي اضطهد بسببه .
لقد كان ابن عربي بارعًا حينما أشار لهذه الفكرة "القطب"دون أن تؤخذ عليه شخصيًا ، ويمكن القول إنه من الشخصيات الحدّية التي إما أن تتعامل معها بتقدير شديد ، أو باستنكار ونقض ، وهذا الأمر لا يكون إلا لكل من تجاوز النمط السائد ، بمعنى اننا لا يمكن أن نتخذ موقفًا متوازنًا حيال مثل هذه الشخصيات .فلو سألنا بعض الفقهاء من مثل البقاعي والأوزاعي سيقولون هو كافر ، ولو سألنا المتصوفة سيقولون عنه هو الشيخ الأكبر.وهذه المعايير والأحكام متعلقة بنظام المعرفة ، فهو جوبه بكره شديد خاصة من فقهاء الظاهر والناس السطحيين .
أما إذا انتقلنا لحياته فسنرى أنها تمثل منظومة متكاملة فيها المعرفة ، والخبرة الصوفية، والتأليف ، والسفر، والمشيخة ، والرؤيا الصادمة . وآخذ مثالًا على بعض رؤياه أختاره من كتابه فصوص الحكم الذي تعرض فيه إلى موضوع دقيق وهو : كيف أن الله يتجلى تجليا كاملا في الإنسان .
"لما شاء الحق سبحانه وتعالى من حيث أسمائه الحسنى التي لايبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها و إن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله .لكونه متصفا بالوجود ، و يظهر به سره إليه.فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة ، فانه تظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور إليه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل و لا تجليه له. وقد كان الحق أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه ، فكان كمرآة غير مجلوة ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا و لابد أن يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه ، وما هو إلا حصول استعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل و لايزال. وما بقي ثمة قابل ، والقابل لا يكون إلا من فيضه القدس. فالأمر كله منه ابتداؤه و انتهاؤه : ( وإليه يرجع الأمر كله) كما ابتدأ منه. فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم ، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة و روح تلك الصورة. وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة تلك العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم ب "الإنسان الكبير". فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية و الحسية التي هي النشأة الإنسانية. وكل قوة محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها. وأن فيها فيما تزعم ، الأهلية لكل منصب عال ومرتبة رفيعة عند الله لما عندها من الجمعية الإلهية". شرج الجامي لفصوص الحكم ص 49.50.51.52.53.54.
بمعنى ان الوجود الإلهي يظهر في كل شيء ولكنه لا يتجلى في شيء مثلما يتجلى في الإنسان .وفي الفصوص استعرض ابن عربي الأنبياء السابقين من حيث ان كل نبي يعكس تجليًا من التجليات الإلهية ـ وفي النهاية وضع نفسه على نحو مشكل ، ومثير للجدل في هذا السياق ، عندما رأى رؤيا حكاها وهي انه رأى الكعبة مبنية من لبنة من ذهب وأخرى من فضة وثمة لبنة ناقصة فيها هي "ابن عربي" .وهذه مسألة كفيلة بإباحة دمه في ثفافتنا التي كثيرًا ما تميل إلى هذا الحل ، ليس مع أصحاب الصوفية فقط وإنما أصحاب الاتجاهات الجديدة ، الذين يحملون فكر مختلف كالشعراء والعلماء والمشايخ الأجلاء الذين لا خلاف عليهم من مثل الشريف الرضي فهو عالم حظي باهتمام السنة والشيعة ، وهو الذي قال:
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثـــنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتـــونه حســــــنا
فهذا الإمام مثل محطة أساسية عند الشيعة ، وعلامة كبرى عند أهل السنة ، يرى انه في نفسه أمور كثيرة لو نطق بها سيستباح دمه . وهذه الرؤية تظهر ان استباحة الدم والميل إلى الاستتار يمثل هاجسا دائما في تراثنا ، في الوقت الذي يظهر بصورة مؤقتة في الحضارات والثقافات الأخرى .وهذا مرتبط بسياق الجماعة ، فثمة سياق ليبرالي يسمح بتفجر الأفكار الجديدة والمواقف الإنسانية ، وسياق آخر حازم ونمطي يخشى من الجديد المختلف وبالتالي يجد من الأسهل قطع الخيط وإنهاء المشكلة .
وابن عربي في إطار تطوره الفكري تعرض لقضية تغيير أساسية ، هي حل المشكلات الموجودة بين الديانات ، إذ رأى ان الديانات لم تتغير كثيرًا ، وأن فيها اختلاف أساسي يجعل الإنسان الذي هو المجلى الكامل للألوهية ، ومحل الظهور أو التجلي الإلهي مختلف في اعتقاداته .
وطرح سيرة أخرى حين قال:
لقدْ كنتُ قبلَ اليـومِ أُنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينِهِ داني
وقـد صـار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيـتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائـــفٍ وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنـىَّ توجَّـهـتْ ركائبه فالحبُّ ديني وإيمانـي
إذا كان هو في السابق يرى أن الناس يمكن تصنيفهم على حسب اعتقاداتهم الدينية ، فإن كانوا من دين آخر فهو ينكر عليهم وبالتالي ينكرهم .وفجأة وجد قلبه يقبل كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن ، حتى الاعتقادات الوثنية يراها في هذه الحالة ان المقصود بها التقرب إلى الله الكامل في الأشياء ، ولما يصل إلى هذه الأشياء يكتشف أن المسعى واحد والشكل مختلف ، فقلبه الذي صار قابلًا كل صورة ،يقبل بيت الأوثان والكعبة والمصحف والتوراة.
وقوله أدين بدين الحب يمكن أن نفسره باتجاهين :
_اتجاه النظر إلى الأديان بِعَدِّها تجليات متتالية للحقيقة الإلهية وهذا الحل الأيسر.
_واتجاه آخر أكثر تعقيدًا ، وهو البدء في فكرة الحب نفسها ، ورصد الكيفية التي يرتقي الصوفي بها ليصل إلى هذا المستوى.
فهو لما نزل بمكة كان عمره في الأربعينات ، والتقى فيها برجل معروف اسمه الشيخ زاهر الدين ابن رستم الكيلاني ، أصله من أصفهان ، وهو عالم في الحديث ، وكان له ابنة تسمى ب "النظام"، ولما رآها أحبها حبًا عميقًا بحيث استطاع أن يصل به إلى التماس مع الوجود الحقيقي للأشياء .وهو وصفها فقال:"بنت عذراء ، طفيلةٌ هيفاءُ ، تقيِّد النظر وتزيِّن المحاضِر والمحاضر وتحير المناظر ، تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس .. ساحرةُ الطرفِ ، عراقيَّة الظرف ، إن أسهبت أتعبت ، وإن أوجزت أعجزت ، وإن أفصحت أوضحت ، إن نطقت خَرِسَ قسُّ بنُ ساعدةَ، وإن كَرُمت خَنَسَ معنُ بنُ زائدة، وإن وفَّت قصَّر السمؤال خطاه ... ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض السيئة الأغراض ، لأخذتُ فى شرح ما أودع الله تعالى فى خلقها من الحسن ، وفى خُلُقها الذى هو روضةُ المزنِ ، شمسٌ بين العلماء ، بستان بين الأدباء ، حُقَّةٌ مختومة ، واسطة عقدٍ منظومة ، يتيمة دهرها ، كريمة عصرها .. مسكنُها جيادٌ وبيتها من العينِ السوادُ ومن الصدر الفؤاد ، أشرقت بها تهامه ، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه .. عليها مسحة مَلَكٍ وهمَّة مَلِكٍ ".
وقال:
طالَ شَوقي لِطَفلَةٍ ذاتِ نَثرٍ وَنِظامٍ وَمِنبَرٍ وَبَيانِ
مِن بَناتِ المُلوكِ مِن دارِ فُرسٍ مِن أَجَلَّ البِلادِ مِن أَصبَهانِ
هِيَ بِنتُ العِراقِ بِنتُ إِمامي وَأَنا ضِدُّها سَليلُ يَماني
هَل رَأَيتُم يا سادَتي أَو سَمِعتُم أَنَّ ضِدَّينِ قَطُّ يَجتَمِعانِ
وقوله سليل يماني يعني انه عربي ، وهو لم يقصد في هذه الأبيات الإشارة إلى الاختلاف بينهما في الأصل فقط وإنما أراد أن يقول: إنه اكتمل في وعيه وخبراته الحياتية ، إذ تزوج أكثر من مرة قبل وبعد أن التقى بها ، وهي طفلة ولكنها في نظره كبيرة ، فبهذا المعنى هما ضدان ، وبمعنى ما التقيا ، لقاء وصفه:
إِذا ما اِلتَقَينا لِلوَداعِ حَسِبتَنا لَدى الضَمِّ وَالتَعنيقِ حَرفاً مُشَدَّدا
والحرف المشدد في العربية عبارة عن حرفين لكنهما لا يظهران ، بمعنى أن حبه لها لم يكن في المطلق ، وإنما هو امتزاج رأى أنه وصل من خلاله إلى الالتصاق "الحرف المشدد "، ولم تقتصر المسألة على الجانب الحسي فحبه إن أحب ليس مثل الآخرين ، ومثله النظام التي إذا عشقت فعشقها مختلف.الحب عندهما طريق وحيد لإدراك المعنى الكامن خلف الأشياء ، ولكن حينما كثر الكلام على حبهما ، اضطر إلى الابتعاد ، وقال :
إِنَّ الفِراقَ مَعَ الغَرامِ لَقاتِلي صَعبُ الغَرامِ مَعَ اللِقاءِ يَهونُ
والغرام في اللغة هو العذاب ، ولذلك جاء في كتاب الله تعالى في وصف جنهم "إن عذابها كان غراما" ، لقد كان صاحبنا في حالة توهج عند اللقاء ، وصعب عليه الانقطاع ، والأصعب من هذا هو رفض أتباعه وأعدائه لحبه للنظام ، فعشقه تهمة كبرى .وهذا الرفض اتهام جاهز يدعو إلى الاستغراب ، فيبدو أن الأشخاص الذين يرتقون بفكرهم يعيبهم الحب أو العشق في نظر العامة ، لكن ابن عربي لم يضره هذا وعشق عشقًا حقيقيًا ، وكتب في هذا العشق ديوان "ترجمان الأشواق "أي المعبر عن الأشواق .وثار الخلق وقالوا الشيخ الأكبر أحب بنتًا صغيرة ، ألا يخجل من نفسه ؟
وهذه الثورة تنم عن فهم ساذج للأشياء ، وتعارض حقائق في التراث نمر عليها مرورًا سريعًا ، فمثلًا الشيخ نجم الدين كوبْرى رجل صوفي كبير ، وهو واحد من أهم الشخصيات التي أثرت في تاريخ الحضارة العربية ، وعلى أيدي تلامذته أسلم ملوك المغول ، وقد أسسوا دولة كاملة ، وهو واحد ممن كتبوا كتابة أقل ما توصف به أنها مذهلة، ومع هذا في كتابه "فوائح الجمال وفواتح الجلال "يحدثنا بشكل صريح عن الحالات التي مرّ بها وهو شيخ كبير ،
فيقول: "عشقت جارية بقرية على ساحل نيل مصر ، فبقيت أيامًا لا آكل ولا أشرب _ إلا ما شاء الله_ حتى كثرت نار العشق ، فكنت أتنفس نيرانا ...وكلما تنفست نارًا ، تنفَّسوا من السماء _ بحذاء نَفَسي _نارًا ، فتلتقي الناران ما بيني وبين السماء ، فما كنت أدري من ثَمَّة أين تلتحقان ؛ فعلمتُ أن ذلك شاهدي في السماء" ( ص182_183).
قد يقول بعض الناس إن الصوفيين معرضون لمثل تلك الحالات ، فنقول لهم خذوا الفقهاء ، وأشد المذاهب الفقهية تشددًا "الحنبلي"ومن كبار الأسماء في هذا المذهب طوال التاريخ أبو الفرج ابن الجوزي ، وهو علامة كبرى في تاريخ الحضارة الإنسانية ، مؤرخ ، وفقيه ، وصاحب مجلس وعظي ، ووقف وقفات ضد الصوفية ، وكتب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم وغيره من المؤلفات الهامة .وكان إلى جانب هذا قد أحب واحدة اسمها "نسيم الصبا"، والصبا ريح لطيفة تهب في الجزيرة العربية في المساء ، وقد تزوجها فأقاما مدة متحابين، حتى وقعت بينهما وحشة بسبب اهتمامه بالعلم والتعليم ففارقها وطلقها ، فحصل له عند ذلك ندم وهيام أشرف منه على التلف، فحضرت في بعض الأيام مجلس وعظه، فحين رآها عرفها، فاتفق أنه جاءته امرأتان وجلستا أمامه فحجبتاها عنه فأنشد في الحال:
أيا جبلي نعمان بالله خليا نسيم الصبا يخلصْ إلي نسيمها
و هذا البيت الذي استشهد به ابن الجوزي هو من قصيدة قالها مجنون ليلى .وهذه الحادثة أو الخبر عدّ منقصة له ، إلا أنه كان من القوة بحيث استهان بهذا وكتب عنه المؤرخون أنه برغم علوّ كعبه في العلوم إلا أنه كان لا ينفكُّ عن جارية حسناء ، ليس هذا فقط وإنما حتى وهو في آخر حياته وقع بقصة حبّ عميقة مع امرأة اسمها (خاتون أم محيي الدين ) وتوفي وكانت جنازته كبيرة جدا وبعد يوم من وفاته ماتت خاتون أم محيي الدين ، وقال المؤرخون : فعد ذلك من كراماته لأنه كان مُغرمٌ بها .
هذه بعض وقائع الحب الجزئية فيما يبدو ، وإجابات للوصول إلى معنى خلف المعنى البسيط للأمر ، فصاحبنا وصل الحب به إلى مذهب كامل ورؤية مختلفة يقول : "لا احْتِجَار عَلَى الهَوَى ولِهَذَا يُهْوَى ، بالهوى يُجْتَنَبُ الهَوَى، وَحَقِّ الهَوَى إنَّ الهَوَى سَبَبُ الهَوَى، وَلَوْلا الهَوَى فِي الحُبِّ مَا عُبِدَ الهَوَى ، بِالهَوَى يُتّبَعُ الحَقّ، وَالهَوَى يُقْعِدَك مَقْعَدَ صِدْق ، الهَوَى مَلاذُ، وفِي العِبَادةِ بِهِ إلتِذَاذْ، وَهُو مَعَاذٌ لِمَنْ بِهِ عَاذْ .
فالمعنى انطلق من الحسية وكونهما في اللقاء حرفاً مشدداً ، إلى إعلاء للحالة وتوهج فيها يتجاوز حتى العاشق والمعشوق . فيقول :"الأحْبَابُ أرْبَابْ ، والمَحْبُوبُ خَلْفَ البَابْ، المُحِبُّ رَبُّ دَعْوَى ، فَهُوَ صَاحِبُ بَلْوَى، المَحْبُوب إنْ شَاءَ وَصَلْ ، وإنْ شَاءَ هَجَرْ، المُحِبُّ إذَا ادّعَى مَحَبَّة اُخْتُبِرَ ، فالمُحِبُّ فِي الاختبارِ والحَبِيبُ مُثَارٌ مِنَ الأغْيَار، ولِهَذَا لا تُدْرِكْهُ الأبْصَار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَار".
ورب الشيء أي صاحبه ، وخلف الباب أي محتجب ومستترٌ لا يظهر. وفي قوله السابق محاولة للوصول إلى معنى عميق ، وإلى الإعلاء لحالة الحب الجزئية والوصول إلى معنى أرقى من حالات الحب النمطي .
لذلك فرق بين الشوق والاشتياق فالحال الأول يقارب حال الجائع الذي يأكل كل ما جاع ، وهو غالبًا مايسكن في اللقاء ، أما الحال الآخر فإنه يهيج صاحبه عند اللقاء بالمحبوب ، ولا يعرف الاشتياق إلا العشاق ، إذ كلما توغلوا أصبحوا أكثر رغبة في المزيد إلى ما لا نهاية ."الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاء، والاشتِيَاقُ يهَيِجُ بالالْتقَاء، لا يَعْرفُ الاشْتيَاقَ إلاَّ العُشَّاق. مَنْ سَكَنَ باللِّقَاءِ، فَمَا هُوَ عَاشق عِنْدَ أَرْبَابِ الحقَائِق. مَنْ قَامَ بثِيَابه الحريقُ؛ كَيْفَ يَسْكُن؟ وهَلْ مثْلُ هَذَا يَتَمَكَّن! للْنَار التْهَابٌ ومَلْكَة.. فَلاَ بُدَّ مِنَ الحرَكَة. والحرَكَةُ قَلَق، فَمَنْ سَكَنَ مَا عَشِق.كَيْفَ يَصِحُّ السُّكُونْ؟ وهَلْ فى العِشْقِ كُمُونْ! هُوَ كُلُّهُ ظُهُور، وَمَقامُهُ نُشُور. والعَاشِقُ مَا هُوَ بحُكْمِه، وإنَّمَا هُوَ تَحْتَ حُكْمِ سُلْطَانِ عِشْقِه. وَلاَ بحُكْمِ مَنْ أَحَبَّهْ. فَمَا حَبَّ محُبٌّ إلاَّ نَفْسَهُ. أوْ، ما عَشِقَ عاشِقٌ، إِلاَّ مَعْنَاهُ وَحِسَّهُ. لِذَلِك،العُشَّاقُ يَتأَلمونَ بِالْفِراق، وَيَطْلُبُونَ لَذَّةَ التَّلاَق.فَهُمْ فى حُظُوظ نُفُوسِهمْ يَسْعَوْن.وَهُمْ في العُشَّاقِ الأَعْلَوْن.فَإنهَّمْ العُلَماءُ بالأُمُور، وبالَّذى خَبَّاهُ الحقُّ خَلْف السُّتُور.فَلاَ مِنَّةً لُمحبٍّ عَلَى محْبُوبِهِ، فَإنَّهُ مَعَ مَطْلُوبهِ. وَلاَ عنْدَهُ محْبُوبٌ ومَرْغُوب سِوَى مَا تَقِرُّ بِهِ عَيْنُه، وَيَبْتَهجُ بِهِ كَوْنُه. وَلَوْ أرَادَ المحِبُّ ما يُريدُهُ المحْبُوبُ مِنَ الهَجْرِ، هَلَكَ.. بَينْ الإرَادَة، وَالأَمْرِ ! وَمَا صَحَّ دَعْوَاهُ فىِ المحَبَّةِ، وَلاَ كَانَ مِنَ الأَحِبَّةِ".
الحب ليس بديلا ، هو معنى وراء الأشكال الظاهرية ، من يقوم بثيابه كيف يسكن ، فالمحبوب هو مجلى لحقيقة العالم ، والمحب أدرك هذا فيه فاختبره ، فالقضية بالمحب لا المحبوب.مثل شخص ينظر بمرآة ، فيكون المحبوب مرآة ، يتجلى فيها العاشق، بمعنى أن العاشق يرى حقيقته على مرآة المعشوق ، ومن هنا جاء الفرق بين مستويات العشق.فهناك عشق عذري، وعابر وكامل ...والعشق في اللغة من العشقة : أي جذع الشجرة الذي إن قطع جف وأصبح هشًّا، ، وهناك مستوى أعلى يمثله حب الصوفيين ومنهم ابن عربي ، يرى فيه المحب حقيقته متجلية على مرآة محبوبه ، والحب يمتد إلى ما لا نهاية ، وهو لا يتوقف عند فعل ما مهما كان عميقا ، لذلك يتألم المحب بالفراق ويلتذ باللقاء ، بمعنى أن احتجاب المحبوب يعني أن المحب لا يستطيع أن يرى ذاته .لذلك فصّل صاحبنا القول في الإرادة والأمر فهناك أشياء تكون بالإرادة وأشياء أخرى تكون بالأمر وهناك أمر تكويني وأمر تكليفي.
فالأمر التكويني في أن آدم لابد من أن يعصي ربه حتى يتواجد الخلق ، والأمر التكليفي هو أنه قال له لا تأكل من الشجرة ، فهو قال هذا وهو أمر تكليفي وليس تكويني، فيبدو آدم يعصي الله، ولكن الحقيقة هو أنه لابد أن يأكل من الشجر حتى يتواجد الخلق وإلا لم تكتمل مسألة الوجود .
وقد تم إعلاء هذا الأمر إلى إبليس نفسه الذي أطاع الله بالأمر التكويني وعصاه بالأمر التكليفي، وهذا يفسر كيف ان إبليس كلم الله في القرآن وقال له "فبعزّتِكَ لأغْوِيَنّهُم أجْمَعِين "لأن هذه المهمة يريدها الله ولكن لم يأمره بها ، ففي الحب هناك إرادة وهناك أمر. إرادة : وهي عقل المحب والمحبوب وأمر: وهو حالة المحب والمحبوب ، والعقل هو السيطرة ، والصوفي بحبه يحاول أن يوازي بين ( العقل والسيطرة ، وحالة التوتر ) ليسيطر على الأمر والفيضان العشقي المتوهج في نفسه وإن فارق المحبوب ، وهذا ما قد يفسر لنا ابتعاد ابن عربي عن النظام بسبب كلام الناس ، أو الإعلان الخاص بالسر ، ولكنه يرجع ليكتب ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق ، وفيه يجلي حبه في ظل الحضرة الإلهية ، فيصير الحب هو دينه ويتجاوز الخلافات بين الديانات.
تتعالى الزفرات والأنـَّـات من المتألمين والمعذبين في أماكن عديدة من عالمنا بسبب الحروب والمنازعات، ويتفجر العنف الطائفي والاقتتال الداخلي وما ينجم عنهما من ويلات في بعض الدول، لبروز تيارات متطرفة وتعصبات متشددة تتحكم بمصائر الناس وتبث الخوف واليأس فيهم وتضع السلم العالمي في خطر. يضاف إلى هذا، حالة التمزق والضياع "والتشظي الأخلاقي"التي يعيشها كثرة من جيل الحداثة، لانجرافهم وراء بهارج العصر ومادياته ولذاته المدمرة، وانقيادهم في غير الهدف الإيجابي الذي اخترعت من أجله تـَقنيات الاتصالات وشِباكها.. التي أصبحت مهوى أفئدتهم وشغلهم الشاغل مما تسبب في ابتعادهم عن القيم والضوابط الأخلاقية، فتنامت والحالة هذه القضايا والمعضلات المجتمعية!
لقد باتت الحاجة ملحَّة "لإنقاذ هُوية الكائن البشري من التلاشي في عالمنا الذي تسيطر عليه الثقافة التسويقية، وهنالك مخاوف من أن يختزل الطغيان التكنولوجي المتزايد الإنسان عن كونه إنساناً بتحويله إلى مجرد آلة للإنتاج والاستهلاك دون أي أفق يتطلع منه إلى ما وراء التلاعب التكنولوجي"والحديث للأب المستشرق الإيطالي البروفيسور جوزيف سكاتولين أستاذ التصوف الإسلامي في المعهد البابوي للدراسات الإسلامية والعربية بروما، الذي يقرع الجرس مُـنبهاً عقلاء العالم إلى لـُـباب مُعضلةٍ تلامس المجتمع الدولي بأسره، يقول: "إن الإنسان صنع الآلة ثم تحول على صورتها ومِثالها - إن لم يكن قد تحول إلى عَبـْدٍ لها - ومن يدري، أيتحول إلى روبوتٍ متقن، يعمل وينتج ويستهلك في إطار نظام روبوتي شامل محكم مطلق بحيث يصبح وجوده مجرد وظيفة عملية روبوتية، يمكن تبديلها بكل سهولة بوحدات روبوتية أخرى؟"ويضيف في كتابه الجديد القيـِّم المعنون "التـَجلـِياتُ الروحية ُ في الإسلام - نصوصٌ صوفية ٌ عَبرَ التاريخ-""لقد أخذ الإنسان شيئاً فشيئاً - وبإرادته - ينعزل عن السر الإلهي المطلق الذي هو غاية رغبات القلب البشري وبُغية رحلة حجه عبر الزمن."واستناداً إلى هذه الدلالة يَسُوغ ُ القولُ: إن الجفاف الروحي الناجم عن هجر جوهر التقاليد الدينية يُعَّرض عالمنا لحالة عدم الاستقرار! لقد حان الوقت أن ينهض الإنسان من غفلته وينفض عنه إلى غير رجعة الخصومات والمنازعات، والتعنت الأعمى الذي يُـفضي إلى التفرقةِ والجفاء والخراب.. وأن تكون مسيرة حياته - فعلُ محبة- بهذا: "يحقق الإنسان دعوته الأسمى التي هي مقصد الديانات التي تقود نحو اللقاء مع السر الإلهي المطلق الذي هو سر حُبٍّ مطلق، كما عرفه واختبره الصوفية باعتبارهم أكثر عمقا وتفهما له".
قالت شاعِرَة ٌ لِذِي النون تصف قوماً مرَّت بهم ببعض نواحي الشام:
قومٌ هُمومُهمُ بالله قد علقـت فــما لهُمُ هِــمـَـمٌ تسمــو إلى أحَدِ
ويشير البروفيسور سكاتولين ، الذي كرَّس عمره المديد للدراسات والبحوث الصوفية واللاهوتية والفلسفية إلى أن "الحدود التي تحدد وتكبـِّـل وجودنا البشري العادي المرسوم في إطار الزمان والمكان، ممكنٌ تجاوزها، من خلال الخبرة الصوفية التي هي في أساسها لقاء مع الحقيقة المطلقة، التي هي ليست ملكاً أو حكراً لأي كائن، كما أنها لا يمكن حصرها في حدود ثقافة بشرية معينة". ويضيف قائلا في كتابه الجديد الذي شارك في إنجازه الباحث الأستاذ أحمد حسن أنور/ ماجستير تصوف إسلامي/ ويعمل على رسالة الدكتوراه بإشراف البروفيسور سكاتولين : "إن الصوفية هي جوهر كل خبرة دينية وهي خبرة عملية ذاتية وليست ضرباً من العلوم النظرية، وإنها لقاء حَيٌّ وخبرة ملموسة مع مَنْ هو الأساس الأول والغاية القصوى بل والهدف الأخير للوجود البشري ووجود الكون كله". من هذا المـَلـْحَظ فإن توظيف الصوفية لتكون الأساس في التقارب والتعارف بين الأديان بل والثقافات والحضارات، سيحقق قوة يمكنها مجابهة التحديات وفرض احترام هُوية الجماعات البشرية لتحقيق الخير الشامل. وليس بخافٍ على أحد أن "التصوف الإسلامي يمثل ثروة روحية عظيمة ليس فقط على مستوى الحضارة الإسلامية بل على مستوى الحضارات العالمية جمعاء، لذلك فهو مؤهل لكي يكون مجالاً مفتوحا للتلاقي بين الحضارات والأديان العالمية". يضاف إلى هذا أن "نشر البعد الروحي في الإسلام وفي الأديان كلها هو رد على كل أصحاب الفكر المتطرف". لأن البعد الروحي في الأديان، وقد شاء الخالق تعالى لحكمته التي هي فوق إدراك عقولنا البشرية أن تكون مختلفة متنوعة، يقوم على المحبة والتعاضد والأخوة بين البشر على اختلاف عقائدهم ومنابتهم ولونهم وجنسهم بهدف بناء حضارة إنسانية مزدهرة.. وهذا بالطبع لا يروق لمن"يزرعون الزؤان بين القمح"الذين من مصلحتهم تفريق الناس وتشتيتهم، وإبقاء بؤر التوتر مشتعلة وجراح الإنسانية نازفة!
في تعْريفٍ من عشراتٍ.. وردت في الكتاب لكلمة صوفيّ، قال بـِشـْر بن الحارث "الصُّوفيَ من صَفـَا قلبُهُ لله". ومتى تمَّ هذا ، أشرق نوره في عبده، وحيثما يحل النور تنهزم العتمة.
في قصيدته المطولة التائية الكبرى (٧٦١ بيتاً) أنشد سلطان العاشقين عمر ابن الفارض هذا البيت المُعبِّر:
وَمِن نـُورِهِ مِشكاة ُ ذاتي أشـْرَقـــَت عليَّ فـَـنارت بي عشاي كصَحْوَتي
ولتوضيح فكرة التصوُّف للمتسائل أو المعترض فقد تم إفرادُ جزءٍ وافر في الباب الأول من الكتاب لهذا الأمر، إلى جانب مكانة التصوف ومراحله التاريخية ومدى أهمية للإنسان المعاصر. يقول البروفيسور سكاتولين : "إن أصوبَ وأعقلَ طريقٍ إزاء تضارب الآراء والأحكام المسبقة والأهواء الفردية المتحيزة هو اللجوء إلى الواقع التاريخي الأكثر موضوعية وثقة، مع إعادة قراءة مصادره الأصلية على ضوء المناهج العلمية المقبولة عامة في المراكز العلمية المعاصرة، فالتصوف الإسلامي يمثل حركة تاريخية واسعة ممتدة عبر القرون أنتجت أنتاجاً دينياً وثقافيا وفنياً متميزاً في جملة الحضارة الإسلامية".
وقد وصف فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر ( وفضيلته حالياً حفظه الله: الإمام الأكبر الجديد، شيخ الجامع الأزهر) وصف الكتاب في معرض تصديره له بأنه "سِفرٌ ثمينٌ، يعرض في أمانة علمية دقيقة مظاهر التجليات الروحية في الإسلام، ويتحدث عن التصوف الإسلامي نشأة وتطوراً وازدهاراً وعرضاً لبعض المفاهيم والقضايا الإنسانية، وذلك من خلال نصوص شيوخ التصوف أنفسهم، أخذاً من كتبهم وأقوالهم بدءاً من القرن الأول وانتهاء بالقرن السابع الهجريين، وأنــَّـه منجمٌ مملوء بمأثورات كبار الشيوخ والعارفين بالله تعالى، وقد جمع درراً غوالي من عيون قصائد الحب الإلهي وأسراره، واحتشد فيه من أقوال الصوفية قدر كبير قلَّ أن يجتمع في سفر آخر قبل هذا الكتاب".
ان تكن تبحث عن مسكن الروح فأنت روح
وان تكن تفتش عن قطعة خبز فأنت الخبز
وان تستطع ادراك هذه الفكرة الدقيقة فسوف تفهم
ان كل ما تبحث عنه هو أنت
مولانا جلال الدين الرومي
إنَّ هذا العمل الذي يثري المكتبة العربية ينبض بالحياة، وقد جاء في ستمائة وثمانين صفحة من القطع الكبير، وهو بستانٌ مُشرَّعٌ زاخرٌ بالثمارِ اليانعةِ والأزاهير الشذية بحيث يمكن للباحث أو القارئ أن يقطف منه ما يحلو له من قطوف المعرفة.. ثمَّ إنك تجدُ فيه الأقوال الحِكمية في حَنـِيَّـةٍ، والحوارات العقلانية الهادفة في حَنـِيـَّـةٍ أخرى، وقامات الشخصيات الصوفية في ثالثة يُطِـلـُّونَ وغزير إنتاجهم من حولهم كالسُرُجِ المنيرةِ يهيبونَ أن يستثمر المرء جذوة حياته لما هو خير وأبقى.. وتهب النسائم محملة بشذى النشائد والأشعار لمبدعين ذهب أهل الزمان بأسمائهم، وأجهز على ذكراهم النسيان، وفي أركان من البستان مواضع تتسامى في فضاءاتها الابتهالات والتضرعات حتى إذا استوقفتك عشت صفاءً روحياً وسَرعان ما يحل الضياء في قلبك فإذا أنت في تجليات مع الحقيقة النـُّـورِيَّة التي هي مصدر الكل ومرجع الكل.
وذلك الدعاء الذي لم يبح به لساني، والمقسوم للروح المكتوم فيها.
مولانا جلال الدين الرومي
لقد أحب العلامة سكاتولين ، شرقنا العربي، فأقام فيه باحثاً ومعلماً ومؤلفاً. ولعمري أن أشدَّ ما يؤلمه جَوْر الإنسان وقهره وتعاليه على أخيه الإنسان. ويرى بعلمه وفطنته وخبرته ، ضرورة الامتلاء من جوهر الديانات وبعدها الروحي والإنساني، و تبادل الخبرات الدينية لتكون عوامل إيجابية بناءة للأخوّة والتعايش السلمي بين بني الغبراء والثقافات. ولا ينفك يوصي أن تكون الحوارات حقيقية عقلانية بعيدةً عن حُمَيـَّـا الجدل أو المفاضلة أو الأحكام المسبقة إيماناً منه أن: "ثمة مساحة إنسانية ودينية واسعة كافية يمكن لأبناء الديانات أن يتحركوا فيها للسير في مسيرة مشتركة منفتحة نحو الغاية الأخيرة الأسمى". و يدعو حيثما حلَّ وفي مؤلفاته أن "يستعيد كل إنسان بعده الجوهري بصفته كائناً متسائلا رحالة ً في مسيرة دائمة مفتوحة متوجهة للقاء المطلق" وهو يُريد أن يحيي الرجاء والأمل ليعيش الناس في عالمٍ تخلو فضاءاته من الغيوم الداكنة المتصاعدة بفعل آلات الدمار، وأرضه من دماء مجزرة قايين لهابيل المتجددة بأشكال وألوان! وزبدة القول، يُريد أن "تدخل البشرية إلى طور جديد هو طور المحبة أساس كل دينٍ وكل حضارة شريفة".
“العشق نبع، فانغمر كل قطرة تنفصل، عمر مستجد”
مولانا جلال الدين الرومي
جاء في موضع من الكتاب: سـُمعت رابعة العدوية البصرية تقول لأبي عبد الله سفيان الثوري المولود في الكوفة "إنما أنت أيامٌ معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضـُك ، ويوشكُ إذا ذهب البعضُ أن يذهب الكلُّ وأنت تعلم، فاعمل". فهلا تحركت الأمم والشعوب بتقاليدهم الدينية المتعددة، وبهدي جوهرها الروحي الذي يجمع ولا يفرق، لإنقاذ الهوية الإنسانية من التلاشي، ولتحقيق مستقبل مشرق يسوده الخير والوئام. إنها مهمتنا جميعا قبل أن نصبح خبراً ويطوينا النسيان! ومسك الختام هذا البيت البديع للشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة أحد شعراء المعلقات :
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ وكـلُّ نـعـيـمٍ لا محـالة زائِــلُ
«وقف المتصوفة المسلمون من العقل والنظر العقلي موقفاً نقدياً، وذهبوا إلى أن المعرفة العقلية محدودة، لأن العقل لا يقدم إلا حقائق تتعلق بالواقع المادي الطبيعي.
وإن تعذر التعبير عن حقائق التصوف بألفاظ اللغة العادية يرجع كما يرى ستيس في كتابه «التصوص والفلسفة» إلى أمرين
أولهما: إن هذه اللغة موضوعة ضمن قوالب العقل،
وثانيهما: إن المتصوف بوصفه بشراً يعيش من جهة أولى في العالم الزمكاني المادي حيث تسود قوانين المنطق».
مناجات صوفية كردية
هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ
الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي
(اعلم): يا (أنا!) لك أمورٌ تسعةٌ في دنياك، تعاميتَ عن ماهيتها وعواقبها: أما جسدك فكالثمرة المتزهرة المتزينة صيفاً، المنكمشة المتفسخة شتاءً. وأما حيوانيتكَ، فانظر إلى جنس الحيوان كيف يسرع فيهم الموتُ والزوالُ. وأما إنسانيتك، فمترددة بين الإنطفاء والإصطفاء والزوال والبقاء.. فاستحفظ على مابقي، بما من شأنه أن يبقى بذكر الدائم الباقي. وأما حياتك، فكقامتك قصيرة، معينة الحدود، لاتقدم، ولاتأخر.. فلا تتألم ولاتحزن ولاتخف لها، ولاتحمل عليها مالاطاقة به مما تطاول إليه طول الأمل. وأما وجودك، فليس ملكاً لك، فله مالك الملك له، واشفق به منك.. فمداخلتك بغير ما أمرك به. فكما أنها من الفضول وشغل فضولي، فكثيراً ماتضرّ، ألا ترى الحرص ومرق النوم كيف يفعلان ويجلبان الخيبة والسهر! وأما مصائبك، فلا تمرّ حقيقةً، لأنها تمر سريعاً، بل تحلو لأنها تحول.. فتحول وجهكَ من الفناء في الفاني، إلى البقاء بالباقي.. وأما أنت هنا الآن، فمسافر، ثم مسافرٌ، والمسافر لايعلق قلبُه بما لايتعلق به، ويفارقه بسرعة. فكما ترتحل من هذا المنزل في هذا المسجد البتة، كذلك تفارق هذه البلدة قطعاً، أما إلى بطنها، أو إلى خارجها.. فكما ستفارق بالضرورة، كذلك تذهب، بل تخرج وتطرد (شئتَ، أم أبيتَ) من هذه الدنيا الفانية، فاخرج، وأنت عزيز، قبل أن تُطردَ، وأنت ذليلٌ..
أنا الذي هجرت الروح، وكالورد مزقت الأكمام، ومن هنا
فقد صار عقلي غريبا عن روحي
مولانا جلال الدين الرومي
وأما وجودك، فافديه لموجده الذي يشتريه بثمنٍ غالٍ، فسارع إلى البيع، بل الفداء، أما أولاً، فلأنه يزول مجاناً، وثانياً، لأنه مالُه، وإليه يؤول، وثالثاً، لأنه إن إعتمدتَ عليه، سقطتَ في العدم، لأنه (باب إليه)، وإذا فتحته بالترك، وصلتَ إلى الوجود الثابت.. ورابعاً، لأنه إذا تمسّكتَ به، كان في يدكَ نقطة وجود فقط. ويحيط بك مالا يتناهى من الاعدام الهائلة.. وإذا نفضتَ يدَكَ منه، إستبدلتَ لمعةً بشمسٍ، فينقلب محيطُكَ إلى مالا يتناهى من أنوار الوجود. وأما لذائذ الدنيا، فقسمتك تأتيكَ، فلا تطشْ في طلبها. ولزوالها سرعة لايليق بالعاقل تعليق القلب بها. وكيف ما كانت عاقبة دنياكَ، فترك اللذائذ أولى. إذ أما إلى السعادة، وهي تستلزم تركها، وأما إلى الشقاوة، ومن ينتظر الصلب كيف يلتذ ويستعذب مايزيد عذابه من تزيينات آلات الصلب، وان توهمتَ بالكفر العدم، العياذ بالله، فأولى بالترك، إذ بزوال اللذة، يحس ذلك العدمُ الهائلُ ألمَه الأليم آناً فآناً في ضمن زوال اللذائذ. وهذا الألم أثقل بمراتبَ من لذة الوصال، إن كنتَ تشعرُ..
فصوص النصوص الصوفية (١-٧) الغَوْثيةُ .. ووَصْفُ القُطْبِ
قال الغوثُ الأعظمُ، المستوحشُ من غير الله، المستأنسُ بالله: قال اللهُ تعالى: ياغوثَ الأعظم. قلتُ: لبيك يا رَبَّ الغوث. قال:
كُلُّ طَوْرٍ بين الناسوت والملكوت
فهو شريعةٌ
وكُلُّ طَوْرٍ بين الملكوت والجبروت
فهو طريقةٌ
وكُلُّ طَوْرٍ بين الجبروت واللاهوت
فهو حقيقةٌ
يا غوث الأعظم، ما ظهرتُ فى شىءٍ كظهورى فى الإنسان.
يا غوث الأعظم، مَنْ قصَّر عن سفرى فى الباطن، ابتُلى بسفر الظاهر ولم يزدد منى إلا بُعداً .. ومَنْ أراد العبارة بعد الوصول، فقد أشرك .. ومَنْ رآنى استغنى عن السؤال فى كل حال، ومَنْ لم يرنى لم ينفعه السؤال، لأنه محجوب بالمقال.
يا غوث الأعظم، المحبة حجابٌ بين المحب والمحبوب، فإذا فنى المحبُّ عن المحبة، وُصل بالمحبوب.
يا غوث الأعظم، نَمْ عندى لا كنوم العَوَام، تَرَنى! فقلتُ: يا رب كيف أنام عندك؟ قال: بخمود الجسم عن اللذات وخمود النفس عن الشهوات، وخمود القلب عن الخطرات، وخمود الروح عن اللحظات، وفناء ذاتك فى الذات.
يا غوث الأعظم، قُلْ لأصحابك وأحبابك، مَنْ أراد منكم صحبتى فعليه بالفقر، ثم فقر الفقر، ثم الفقر عن الفقر! فإذا تَمَّ فقرُهم فلا ثَمَّ إلاَّ أَنَا.
■ ■ ■
تظهر فى هذه العبارات السابقة، المختارة من (غوثية) الإمام عبدالقادر الجيلانى، طبيعة النصوص الصوفية التى أسميها «فصوص النصوص» لأنها تمثل بالنسبة إلى بقية النصوص ما يمثله الفصُّ بالنسبة للخاتم.. ولهذه (النصوص الفصوص) سمات وخصائص، أهمها وأبرزها الإيجاز الشديد فى المفردات المستعملة وتركيز المعنى الواسع فى أقل عدد من الكلمات، تأكيداً للقدرة على توليد الدلالات فى نفس المتلقى، قارئاً للنص كان أم سامعاً.
فعاد الى قلبي.. تركت الشكوي، انه يهب آلاف الأرواح، فماذا يحدث ان أصبح خصماً لأحد الأرواح وأنا القاضي أكون غاضباً..والخصمان راضيان
مولانا جلال الدين الرومي
من ديون شمس التبربزي
فالإيجازُ اللفظى يقترن دوماً بالطاقة الإيحائية للمفردات والكلمات الاصطلاحية التى تصير فى النص كأنها رموز تشير إلى معانٍ أوسع بكثير مما تعبِّر عنه المفردة أو الكلمة بذاتها، أو فى سياقٍ آخر. وهو ما نراه مثلاً فى العبارة الأخيرة، التى تخرج فيها كلمة (الفقر) من معناها العام المتداول، لتكون معادلاً للطريق الصوفى كله، بناءً على أن العبادة الحقة لله هى (الافتقار إلى الله) وعلى أن الصوفى فى حقيقة حاله، هو (الفقير إلى الله)..
ثم تأخذنا العبارة إلى معنى دقيق، هو أن هذا «الفقر» مراتب، هى على الترتيب: الافتقار إلى الله، الإمعان فى الشعور بهذا الافتقار، افتقاد الشعور بالافتقار ذاته، ونسيان (الفقير) لحاله مع تعلقه بالمحبوب الأعلى الذى لا يتحقق الوصال معه إلا بتجاوز أى شعور بما سواه، وهنا يتم المعنى العميق للفقر، ويصل الصوفى إلى أعتاب مولاه.
وقد رأيت أن أبدأ هذه النصوص (الفصوص) السبعة بمختارات من أعمال الإمام عبدالقادر الجيلانى، لأنه ممن لا يختلف أحدٌ على مكانته.. فهو عند الصوفية واحدٌ من الأقطاب الأربعة الكبار الذين أسسوا أوسع الطرق الصوفية انتشاراً (الجيلانى، الرفاعى، البدوى، الدسوقى)..
وهو فقيه من أعلام المذهب الحنبلى، وله عند الحنابلة مكانة متميزة. بل إن أشهر فقهاء الحنابلة، الإمام ابن تيمية، كان يمتدح الإمام عبدالقادر الجيلانى ويقدِّره تقديراً عظيماً، ويدعوه: شيخ الإسلام. وقد وضع ابن تيمية شرحاً على كتابه «فتوح الغيب» وهو كتاب فى التصوف! مع أن ابن تيمية اشتهر بعدائه للصوفية.. لكن الرجل فى واقع الأمر، كان يعادى المتصوفة ذوى المنازع الفلسفية، ولا يعادى التصوف ذاته، بدليل أن له كتاباً فى التصوف عنوانه: رسالة الصوفية والفقراء.
أفعل الأشياء من عمق روحك ، حينها ستشعر أن ثمة نهرا يجري فيك.. نهرا من السعادة
مولانا جلال الدين الرومي
ولد الإمام محيى الدين عبدالقادر الجيلانى فى جيلان، ببلاد فارس (إيران) ولذلك انتسب إليها. وقد كانت عادة الناس فى الزمن القديم، أن يقولوا للرجل إذا كان مولده بجيلان (جيلانى) وإذا كان نسبه يعود إلى واحدٍ من أهل جيلان، يقال له (جيلى) تمييزاً للمنسوب إلى البلد عن المنسوب إلى واحدٍ من أهلها.
وقد رحل الإمام الجيلانى فى شبابه المبكر نحو بغداد، وظل بها حتى وفاته سنة ٥٦١ هجرية، بعدما نال فى زمانه (وبعد وفاته) شهرة كبيرة، جعلت كثيرين من المؤرِّخين يخصِّصون كتباً كاملة للتأريخ لحياته الحافلة.. وقد أحصيتُ فى كتابى (التراث المجهول) خمسة وعشرين كتاباً فى سيرة الإمام الجيلانى، منها:
غبطة الناظر من ترجمة الشيخ عبدالقادر، لابن حجر العسقلانى- روضة الناظر فى مناقب الغوث عبدالقادر، للفيروزآبادى صاحب القاموس – بهجة الأسرار فى ترجمة الشيخ عبدالقادر وذريته الأطهار، للشطنوفى.. إلى جانب ما لا حصر له من أخبار ووقائع أوردها عنه كبار مؤرِّخى الإسلام فى مدوَّناتهم التاريخية الكبيرة.
وللإمام الجيلانى كتاب شهير فى الفقه هو «الغنية لطالبى طريق الحق» وله مجالس جُمعت فى ثلاثة كتب: فتوح الغيب (مطبوع) الفتح الربانى والفيض الرحمانى (مطبوع) جلاء الخاطر فى الباطن والظاهر (مخطوط).. وله أشعار كانت متفرقة حتى جمعتها فى ديوان كان النصف الثانى من رسالتى للدكتوراه، وقد أضفتُ إليها مقالاته الرمزية، التى منها «الغوثية» التى رأينا مختارات منها فى بداية هذه المقالة.. ومنها أيضاً، المختارات التالية:
ياغوث الأعظم، ما بَعُدَ عنى أحدٌ بالمعاصى، ولا قَرُبَ منى أحدٌ بالطاعات.. أهل المعاصى محجوبون بالمعاصى، وأهل الطاعات محجوبون بالطاعات، ولى وراءهم قومٌ ليس لهم غَمُّ المعاصى ولا هَمُّ الطاعات!
ياغوث الأعظم، أهل الطاعة يذَّكَّرون النعيم، وأهل العصيان يذكرون الرحيم. وأنا قريبٌ إلى العاصى إذا فرغ من العصيان، وبعيدٌ عن المطيع إذا فرغ من الطاعات.
ياغوث الأعظم، إذا عرفت ظاهر العشق فعليك بالفناء عن العشق، لأن العشق حجاب بين العاشق والمعشوق.. وإذا أردت أن تدخل حَرَمى، فلا تلتفت بالملك وبالملكوت وبالجبروت، لأن الملك شيطان العالم، والملكوت شيطان العارف، والجبروت شيطان الواقف. فمن رضى بواحدٍ منها، فهو عندى من المطرودين.
ياغوث الأعظم، كمال المعراج (مازاغ البصر وما طغى) ولا صلاة لمن لا معراج له عندى .
■ ■ ■
مولانا جلال الدين الرومي يحكي عن شمس التبربزي
وقد نُسبت هذه الرسالة المسماة بالغوثية، إلى صوفى آخر شهير، هو محيى الدين بن عربى. لكن نسبتها للإمام الجيلانى أقرب إلى الصحة، خاصة أنها تقترب فى لغتها من نصوص أخرى ثابتة النسبة للإمام الجيلانى، منها نص «وصف القطب»
والغوثية، عند الصوفية، مصطلح خاص يعبِّر عن إحدى صفات القطب (الغوث) الذى يغيث الله به الخلق، ويقبل شفاعته فيهم، ولذلك عَدَّ الصوفية النبى محمداً صلى الله عليه وسلم، هو الأصل لغوث المسلمين فى الدنيا والآخرة. أما الكاملون من الأولياء، فهم وارثون لهذا المقام عند النبى.. ونصُّ الغوثية الذى مَرَّت علينا فقراتٌ منه، هو نوعٌ من النصوص المسماة فى اصطلاح الصوفية (الخطاب الفهوانى) ومعنى الفهوانية مشتقٌ هنا من قولهم:
فاه الرجل، إذا تكلم.. لكنها فى حقيقة أمرها كلام إلهى يتجلى على قلب الصوفى فى لحظات الكشف والفيض. ومنها (المواقف والمخاطبات) لمحمد بن عبد الجبار النِّفَّرى، وبعض قصائد الشاعر الصوفى الأشهر: ابن الفارض.
وبطبيعة الحال، فإن الفقرات المختارة من (الغوثية) فيما سبق، تحتاج إلى شرح طويل لا يسمح به المقام هنا. وما المراد بهذه المقالات شرح مقاصد النصوص الصوفية، بقدر ما نريد التعريف بها والإشارة إليها كمخزون أدبى هائل فى تراثنا، نَسِيَه المعاصرون وأهملوه، فحرموا أنفسهم من آيات بيانية ناصعة.. ولسوف نختتم هذه المقالة بمختارات من كلام الإمام الجيلانى فى (وصف القطب) ونلحق به بعضاً من نصوصه الأخرى:
■ ■ ■
أنَّى للواصف أن يبلغ وصف القطب، ولا مسلكٌ فى الحقيقة إلا وله فيه مأخذٌ مكين، ولا درجة فى الولاية إلا وله فيها موطن ثابت، ولا مقام فى النهاية إلا وله فيه قدمٌ راسخ، ولا منازلة فى المشاهدة إلا وله فيها مشربٌ هنى، ولا معراج إلى مراقى الحضرة إلا وله فيه مسرىً علىٌّ، ولا أمرٌ فى كونيْ الملك والملكوت إلا وله فيه كشف خارق، ولا سرٌّ فى عالميْ الغيب والشهادة إلا وله فيه مطالعة، ولا مظهر لوجودٍ إلا وله فيه مشاركةٌ ، ولا فعل لقوىٍّ إلا وله فيه مباطنة، ولا نور إلا وله فيه قبسٌ، ولا معرفة إلا وله فيها نَفَسٌ.. ولا مكرمةٌ إلا وهو إليها مخطوب، ولا مرتبةٌ إلا وهو إليها مجذوبٌ.
شمس الدين التبربزي
لا مرمى فوق مرماه، ولا مغشى فوق مغشاه، ولا وجود أتمُّ من وجوده، ولا شهود أظهرُ من شهوده، ولا اقتفاء للشرع أشدُّ من اقتفائه.. إلا أنه كائنٌ بائنٌ، متصلٌ، أرضىٌّ سماوىٌّ، قُدسىٌّ غيبـىٌّ.. مستترٌ باتصاله.. بارزٌ بانفعاله.
ولولا أن جُملته وتفصيله، وأوله وآخره، منطوٍ فى حواشى تمكين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وممزوج رحيقه بتنسيم نسمات رعايته.. لخرق سهمُ القدرة سياجَ الحكمة! ولو خلق الله لهذا الأمر الذى أُشير إليه لساناً، لسمعتم ورأيتم عجباً:
ما فى الصبابة منهلٌ مستعذب ... إلا ولى فيه الألذُّ الأطيب
■ ■ ■
ولهذا النص السابق قصةٌ مذكورة فى المخطوطات التى حفظته من الضياع، ملخصها الآتى: قال المؤدب الحاسب، كنتُ كثيراً ما أود أن أسأل الشيخ عبد القادر الجيلانى عن شىءٍ من صفات القطب، فدخلتُ إلى مجلسه وهو يتكلم، فلما جلست قطع كلامه وقال: أنَّى للواصف.. إلخ.
يوماً ستهتدي روحا إليه
مولانا جلال الدين الرومي
وحين انتهت مقالة الإمام الجيلانى فى وصف القطب، أنشد مباشرةً من خاطره، ومن دون تمهيد، القصيدة التى ذكرنا مطلعها (مافى الصبابة..) وهى قصيدة طويلة مذكورة بالكامل فى ديوانه.
وبعد.. فإن للإمام عبد القادر الجيلانى كثيراً من النصوص الفصوص، الأخرى، التى يضيق المجال هنا عن الإشارة إليها وتقديم فقرات منها، لكننى أود أن أختتم هذه السطور بواحدة من مقالاته الخمس القصيرة عن (الحلاج) فقد اشتهر عن الإمام الجيلانى أنه قال: «عَثَرَ الحلاج، ولم يكن فى زمانه مَنْ يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذتُ بيده..» وفى هذه المقالة القصيرة التى اخترتها للقراء، يقول الإمام الجيلانى عن الحلاج:
طار واحدٌ من العارفين، إلى أفق الدعوى، بأجنحة «أنا الحق» فلما رأى روض الأبدية خالياً من الحسيس والأنيس، صَفَّر بغير لغته تعريضاً لحتفه، فظهر عليه عُقاب الملك من مكمن (إن الله غنىٌّ عن العالمين) وأنشب فى إهابه مخلب (كل نفسٍ ذائقة الموت) وقال له شرع سليمان الزمان: لِمَ تكلمت بغير لغتك؟ لِمَ ترنَّمت بلحنٍ غير معهود من مثلك؟ اُدخلْ الآن فى قفص وجودك، وارجعْ من طريق عِزَّة القِدَمِ إلى مضيق ذِلَّةِ الحدوث، وقُلْ بلسان اعترافك ليسمعك أرباب الدعاوى: حسب الواحد إفراد الواحد .
■ ■ ■
إشارة أخيرة : عبارة «حسب الواحد إفراد الواحد» قالها الحسين بن منصور الحلاج، يوم مقتله مصلوباً فى بغداد سنة ٣٠٩ هجرية..
فصوص النصوص الصوفية (٢-٧) .. بَدْو شأنِ الحكيم الترمذى
فى تراثنا العربى عديد من الأعلام الذين حملوا لقب (الترمذى) نسبة إلى بلدة (تِرمِذ) التى كانت تقع بوسط آسيا (أوزبكستان حالياً) وأشهر المعروفين بهذا اللقب اثنان: المحدِّث الشهير أبوعيسى محمد بن عيسى الترمذى، صاحب كتاب (السنن) فى الحديث النبوى.. والصوفى البديع، أبوعبدالله محمد بن علىّ، المعروف بالحكيم الترمذى، الذى انفرد بين الصوفية بلقب (الحكيم) فلم يحمله صوفىٌّ آخر غيره.