لم يتحدث عبدالفتاح السيسي كثيراً لكنه ملأ العالم كله تواجداً وحضوراً، فالرجل الذي يتخذ من كبار جنرالات الجيش المصري قدوة له يتحرك بهدوء غير مسبوق ويفعل المعجزات بخطوات بسيطة، وخلال أيام كان "الجنرال"المصري يتصدر أغلفة الصحف والمجلات العالمية باعتباره منقذ المصريين من قبضة التطرف والرجل القادر علي مواجهة الأمريكان بحرب باردة لم يجرؤ غيره علي خوضها أو الاقتراب منها، ونجح في هز الولايات المتحدة الأمريكية ومفاجأتها بسيناريوهات جديدة لم تتوقعها مطلقاً، ووجه ركلة قوية للمؤخرة الأمريكية - حسب تقرير معهد ستانفورد- الذي نقرأ منه هذه العبارات في توصيف الجنرال السيسي: "يبدو أن رجل المخابرات الشاب الذي أصبح أشهر جنرال في العالم خلال الأيام الماضية والذي يحمل اسما سهلا علي الأذن الغربية بخلاف كثير من الأسماء في الشرق الأوسط «الجنرال سيسي»وجه ركلة قدم قوية للمؤخرة الرخوة للمخطط الأمريكي لتبدأ رحلة الانحسار الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط والتي يبدو أنها ستكون أكثر فداحة وخطرا علي أمريكا من الضربات الموجعة التي سددها لهم ناصر قبل عقود".
المفارقة أن السيسي تلقي معظم دراساته في أمريكا بعكس جنرالات مصر السابقين الذين تلقوا تعليمهم في الاتحاد السوفيتي وربما كان ذلك السبب في أن السيسي يجيد التعامل مع الأمريكان بطريقتهم الاستعراضية فما يمارسه الجيش المصري من نشر سريع واستخدام كثيف للمروحيات ووحدات القتال الخفيفة أرهق البنتاجون في ملاحقته ليخرج آخر تقرير له يتحدث عن صعوبة حقيقية في مجاراة ما يحدث علي أرض مصر من نشر للقوات علي مساحة مثل تلك المساحة وبهذا العدد مع إحكام السيطرة.
وبينما كان المتظاهرون يداعبون طائرات الهليكوبتر التي تطير فوق الرؤوس في ميدان التحرير وعلي شواطئ الإسكندرية كان هناك تعمد واضح لتحليق الطائرات علي ارتفاعات تسمح للمتظاهرين برؤية وجه الطيار وربما ظن المتظاهرون أن الأمر موجه إليهم لكن الرسالة كانت موجهة تحديداً إلي البنتاجون وجيش الدفاع الإسرائيلي وهي رسالة يفهمها جيداً صناع الحرب في الدولتين: يمكننا أن نقوم بعمليات إمرار خارج نطاق رصد الرادارات إلي داخل عمق إسرائيل أو غيرها وقت الحاجة.
كانت الطائرات تتعمد البقاء علي هذا الارتفاع لفترات طويلة وغير معهودة بينما كان استخدام طائرات الهليكوبتر الروسية القديمة علي أطراف المدن مبهراً فالطائرات تبدو بحالة جيدة فنيا رغم صوتها المرتفع وكانت النهاية في السويس التي قدم فيها الكوماندوز المصري عرضاً مجانيًّا في الشوارع ومرة أخري كانت الرسالة عابرة للحدود فهناك تغيير حقيقي في العقيدة القتالية للجيش المصري الذي يمارس علي الأرض وأمام أعين المراقبين العسكريين عمليات واضحة للقتال الخفيف وقتال المجموعات الصغيرة وهو ما يزعج كثيراً جيش الدفاع الإسرائيلي الذي لم يكن يمانع في إدخال وزير الدفاع السابق لقوات مدرعة كبيرة إلي سيناء في أثناء ثورة 25 يناير لكنه الآن ينظر لطريقة نشر الجيش المصري لآليات خفيفة ومجموعات قتالية بكثير من القلق، فما يحدث مثير للقلق لجيش الدفاع الإسرائيلي لكنه مزعج للغاية بالنسبة للبنتاجون الذي أنفق كثيراً علي الجيش المصري وجاء الوقت الذي يكشر هذا الجيش عن أنيابه له في رسالة مؤداها أنه ليس جيش العراق الذي يعتمد تكتيكات عتيقة وآليات ثقيلة لكنه يمكنه أن يمارس أعمالاً ضد إنزال بحري أو جوي بسهولة شديدة.
والأكثر إزعاجاً للأمريكان الآن أن الجنرال السيسي يعلم نقاط ضعف للموقف الأمريكي لم يتنبه لها أحد من قبل، وفي المقال الذي كتبه روبرت رساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد ستانفورد قال: "لا ينبغي أن يفرح أحد بخلع رئيس منتخب، لكن هذا ليس انقلاباً بالمعني التقليدي ولا يستحق تعليق المساعدات الأمريكية وفقاً لما ينص عليه القانون الأمريكي"، ويضيف المقال: "في الواقع، إن الجيش المصري منع بشكل مؤكد وقوع حمامات دم كانت ستترك جروحاً في مصر علي مدار عقود، وعدم تدخله في عزل محمد مرسي كان سيرقي إلي مرتبة العمل الإجرامي".
ومع عودة الجيش إلي الساحة، سيكون خطأً فادحاً أن تكرر الإدارة الأمريكية أخطاء الحلقة الماضية من الحكم العسكري، عندما تمت التضحية بكل شيء علي مذبح الاستقرار.. مشيرا إلي "أن الفارس الأبيض الجديد الجنرال عبدالفتاح السيسي ربما يكون أكثر دهاء وحنكة من طنطاوي، وتحتاج واشنطن أيضاً أن تكون أكثر حنكة ودهاء".
من المهم هنا أيضا، أن نقف عند موقف البنتاجون، فقد قال الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان العامة الأمريكية: "إن المصريين لهم الحق في إدارة بلادهم كما يشاءون".